سورة النساء - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)}
{صدقاتهن} مهورهن، وفي حديث شريح: قضى ابن عباس لها بالصدقة. وقرئ: {صدقاتهن} بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن. و {صدقاتهن} بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة. وقرئ: {صدقتهن}، بضم الصاد والدال على التوحيد، وهو تثقيل صدقة، كقولك في ظلمة: ظُلُمَه. {نِحْلَةً} من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلاً. ومنه حديث أبي بكر رضي الله عنه: إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقاً بالعالية. وانتصابها على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قيل: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة، أي أعطوهنّ مهورهنّ عن طيبة أنفسكم، أو على الحال من المخاطبين، أي آتوهنّ صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو من الصدقات، أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس. وقيل: نحلة من الله عطية من عنده وتفضلاً منه عليهن، وقيل: النحلة الملة، ونحلة الإسلام خير النحل. وفلان ينتحل كذا: أي يدين به. والمعنى: آتوهن مهورهن ديانة، على أنها مفعول لها. ويجوز أن يكون حالاً من الصدقات، أي ديناً من الله شرعه وفرضه. والخطاب للأزواج. وقيل: للأولياء، لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم، وكانوا يقولون: هنيئاً لك النافجة، لمن تولد له بنت، يعنون: تأخذ مهرها فتنفج به مالك أي تعظمه. الضمير في (منه) جار مجرى اسم الإشارة كأنه قيل عن شيء من ذلك، كما قال الله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} [آل عمران: 15] بعد ذكر الشهوات، ومن الحجج المسموعة من أفواه العرب ما روى عن رؤبة أنه قيل له في قوله:
كَأَنَّهُ فِي الْجِلدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ ***
فقال: أردت كأن ذاك. أو يرجع إلى ما هو في معنى الصدقات وهو الصداق، لأنك لو قلت: وآتوا النساء صداقهن، لم تخل بالمعنى، فهو نحو قوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصالحين} [المنافقون: 12] كأنه قيل: أصدّق. و{نَفْساً} تمييز، وتوحيدها لأنّ الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه. والمعنى: فإن وهبن لكم شيئاً من الصداق وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم {فَكُلُوهُ} فأنفقوه. قالوا: فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة، علم أنها لم تطب منه نفساً، وعن الشعبي: أن رجلاً أتى مع امرأته شريحاً في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع، فقال شريح: ردّ عليها. فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ} قال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وعنه: أقيلها فيما وهبت ولا أقيله، لأنهنّ يُخدعن. وحكي أن رجلاً من آل معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقاً كان لها عليه، فلبث شهراً ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرجل: أعطتني طيبة بها نفسها، فقال عبد الملك: فأين الآية التي بعدها فلا تأخذوا منه شيئاً؟ اردد عليها.
وعن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى قضاته: إن النساء يعطين رغبة ورهبة. فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها، وعن ابن عباس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: «إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضى به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم الله به في الآخرة».
وروي: أن أناساً كانوا يتأثمون أن يرجع أحد منهم في شيء مما ساق إلى امرأته، فقال الله تعالى إن طابت نفس واحدة من غير إكراه ولا خديعة فكلوه سائغاً هنيئاً. وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل: فإن طبن، ولم يقل: فإن وهبن أو سمحن، إعلاماً بأنَّ المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة. وقيل: إن طبن لكم عن شيء منه. ولم يقل: فإن طبن لكم عنها، بعثا لهن على تقليل الموهوب.
وعن الليث بن سعد: لا يجوز تبرعها إلا باليسير.
وعن الأوزاعي: لا يجوز تبرعها ما لم تلد أو تقم في بيت زوجها سنة. ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد، فيكون متناولاً بعضه، ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله، لأنّ بعض الصدقات واحدة منها فصاعدا. الهنيء، والمريء: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه. وقيل: الهنيء: ما يلذه الآكل. والمريء ما يحمد عاقبته.
وقيل هو ما ينساغ في مجراه.
وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة (المريء) لمروء الطعام فيه وهو انسياغه، وهما وصف للمصدر، أي أكلاً هنيئاً مريئاً، أو حال من الضمير، أي كلوه وهو هنيء مريء، وقد يوقف على فكلوه ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدُّعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين، كأنه قيل: هنأ مرأ. وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة.


{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)}
{السفهاء} المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا يبنغي ولا يدى لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها. والخطاب للأولياء: وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم، كما قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 79]، {فمَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25] الدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله: {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم}، {جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} أي تقومون بها وتنتعشون، ولو ضيعتموها لضعتم فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم. وقرئ: {قيما}، بمعنى قياماً، كما جاء عوذاً بمعنى عياذاً.
وقرأ عبد الله بن عمر: {قواماً}، بالواو. وقوام الشيء: ما يقام به، كقولك هو ملاك الأمر لما يملك به. وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك ما لا يحاسبني الله عليه، خير من أن أحتاج إلى الناس.
وعن سفيان- وكانت له بضاعة يقلبها-: لولاها لتمندل بي بنو العباس.
وعن غيره- وقيل له إنها تدنيك من الدنيا-: لئن أدنتني من الدنيا لقد صانتني عنها. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه، وربما رأوا رجلاً في جنازة فقالوا له: اذهب إلى دكانك {وارزقوهم فِيهَا} واجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتجروا فيها وتتربحوا، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فلا يأكلها الإنفاق. وقيل: هو أمر لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء، قريب أو أجنبي، رجل أو امرأة، يعلم أنه يضعه فيما لا ينبغي ويفسده {قَوْلاً مَّعْرُوفاً} قال ابن جريج: عدّة جميلة، إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم.
وعن عطاء: إذا ربحت أعطيتك، وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظاً. وقيل: إن لم يكن ممن وجبت عليك نفقته فقل: عافانا الله وإياك، بارك الله فيك. وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلاً أو شرعاً من قول أو عمل، فهو معروف، وما أنكرته ونفرت منه لقبحه، فهو منكر.


{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)}
{وابتلوا اليتامى} واختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف، قبل البلوغ حتى إذا تبينتم منهم رشداً- أي هداية- دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير عن حدّ البلوغ. وبلوغ النكاح. أن يحتلم لأنه يصلح للنكاح عنده، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد والتناسل. والإيناس: الاستيضاح فاستعير للتبيين. واختلف في الابتلاء والرشد، فالابتلاء عند أبي حنيفة وأصحابه: أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى يستبين حاله فيما يجيء منه. والرشد: التهدي إلى وجوه التصرف.
وعن ابن عباس: الصلاح في العقل والحفظ للمال. وعند مالك والشافعي: الابتلاء أن يتتبع أحواله وتصرُّفه في الأخذ والإعطاء، ويتبصر مخايله وميله إلى الدِّين. والرشد: الصلاح في الدين، لأن الفسق مفسدة للمال.
فإن قلت: فإن لم يؤنس منه رشد إلى حدّ البلوغ؟ قلت: عند أبي حنيفة رحمه الله ينتظر إلى خمس وعشرين سنة، لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسنّ ثماني عشرة سنة، فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان لقوله عليه الصلاة والسلام: «مروهم بالصلاة لسبع» دفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس. وعند أصحابه: لا يدفع إليه أبداً إلا بإيناس الرشد.
فإن قلت: ما معنى تنكير الرشد؟ قلت: معناه نوعاً من الرشد وهو الرشد في التصرف والتجارة، أو طرفاً من الرشد ومخيلة من مخايله حتى لا ينتظر به تمام الرشد.
فإن قلت: كيف نظم هذا الكلام؟ قلت: ما بعد {حتى} إلى {فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} جعل غاية للابتلاء، وهي (حتى) التي تقع بعدها الجمل. كالتي في قوله:
فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا *** بِدِجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ
والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية لأن إذا متضمنة معنى الشرط، وفعل الشرط بلغوا النكاح وقوله: {فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَ الهم} جملة من شرط وجزاء واقعة جواباً للشرط الأول الذي هو إذا بلغوا النكاح، فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم، فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم.
وقرأ ابن مسعود: {فإن أحسيتم} بمعنى أحسستم قال:
أَحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إِلَيْه شُوسُ ***
وقرئ: {رشداً}، بفتحتين، {ورشداً}، بضمتين {إِسْرَافاً وَبِدَاراً} مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، تفرطون في إنفاقها، وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا. ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنياً وبين أن يكون فقيراً، فالغني يستعف من أكلها ولا يطمع، ويقتنع بما رزقه الله من الغنى إشفاقاً على اليتيم، وإبقاء على ماله. والفقير يأكل قوتاً مقدراً محتاطاً في تقديره على وجه الأجرة، أو استقراضاً على ما في ذلك من الاختلاف ولفظ الأكل بالمعروف والاستعفاف، مما يدل على أن للوصي حقاً لقيامه عليها.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً قال له: إن في حجري يتيماً أفآكل من ماله؟ قال: «بالمعروف غير متأثل مالاً ولا واق مالك بماله فقال: أفأضربه؟ قال: مما كنت ضارباً منه ولدك»؛ وعن ابن عباس: أنّ وليّ اليتيم قال له: أفأشرب من لبن إبله؟ قال: إن كنت تبغي ضالتها، وتلوط حوضها، وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضرّ بنسل، ولا ناهك في الحلب وعنه: يضرب بيده مع أيديهم، فليأكل بالمعروف، ولا يلبس عمامة فما فوقها.
وعن إبراهيم: لا يلبس الكتان والحلل. ولكن ما سدّ الجوعة ووارى العورة.
وعن محمد بن كعب يتقرّم تقرّم البهيمة وينزل نفسه منزلة الأجير فيما لابد منه.
وعن الشعبي: يأكل من ماله بقدر ما يعين فيه. وعنه: كالميتة يتناول عند الضرورة ويقضي.
وعن مجاهد: يستسلف، فإذا أيسر أدّى.
وعن سعيد بن جبير: إن شاء شرب فضل اللبن وركب الظهر ولبس ما يستره من الثياب وأخذ القوت ولا يجاوزه فإن أيسر قضاه، وإن أعسر فهو في حلّ.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، وإذا أيسرت قضيت واستعف أبلغ من عف، كأنه طالب زيادة العفة {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} بأنهم تسلموها وقبضوها وبرئت عنها ذممكم، وذلك أبعد من التخاصم والتجاحد وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة. ألا ترى أنه إذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع اليمين عند أبي حنيفة وأصحابه. وعند مالك والشافعي لا يصدّق إلا بالبينة، فكان في الإشهاد الاستحراز من توجه الحلف المفضي إلى التهمة أو من وجوب الضمان إذا لم يقم البينة {وكفى بالله حَسِيباً} أي كافياً في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو محاسباً. فعليكم بالتصادق، وإياكم والتكاذب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8